منتدى الحميم الثقافي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

قصة كوخ القصب

اذهب الى الأسفل

قصة كوخ القصب Empty قصة كوخ القصب

مُساهمة  فاتن دراوشة الإثنين فبراير 01, 2010 3:45 pm



كنت أجلس على شرفة المنزل، في ذاك المساء الكئيب، حيث التهمت عتمة الليل ونسماته البارده جسدي، فلم تبق منه غير التماع مرايا الدّموع المتأرجح في مُغُر عينيّ.
كانت البيوت تتزاحم من حولي كعيدان الثّقاب في العلبة، وكانت الوجوه الغريبة المبهمة تطالعني من الشرفات القريبة، بعيونها الحائرة .
وكنت أحاول أن أقرأ نفسي في تلك العيون، لعلّني أستطيع العثور على ذاتي الهاربة، بعد رحلة بحث طويلة، أدمت كاهلي .
وضعت رجليّ على حافّة الشرفة، واسترخيت، في ذلك الكرسيّ الأبيض، الذي نسي لونه جرّاء مصافحة الشمس له عند شروقها وغروبها .
أغمضت عينيّ وحاولت أن أنتزع نفسي من دوّامة الفكر التي كنت أغرق بها، انتشلت نفسي قليلا وحاولت تنقية ذهني، لكن سرعان ما وجدت نفسي أجرّ بحبل الذكريات، رغما عنّي، ووجدت نفسي أرتمي في حضن الذكريات الحالم، حيث تهت عن الدنيا وما فيها .
تذكرت ذلك اليوم الذي التقيته به، في تلك الحديقة، حيث كنت اجلس وحيدة هناك، ألملم أطياف الشمس الهاربة ،وأتأمّل الأشجار من حولي وهي تلوّح بذراعيها، مودّعة لقرص الشمس الدامي، والعصافير التي كانت تحلّق مسرعة لتعانق جسد الشفق الأحمر، ولتغرق جناحيها في شلاّل الحمرة ولتغتسل ببقايا الدفء .

كنت أستلقي على العشب، وأمامي وضعت رواية لشكسبير أتصفّح بها،
ولم يكن يرافقني عندها سوى عشب الحديقة، وظلال الأشجار المتراقصة فوق تلك الأعشاب .
وأتاني صوته من خلفي كعزف الملائكة على اوتار قيثارة سماويّة، هادئا، حزينا، عذبا
فلم أشعر بالدهشة عندها، ولم أسارع للملمة نفسي من على العشب،
لم يكن منّي إلاّ التفاتة للخلف حيث كان يتكلّم، لأتأكّد من كوني أسمع صوتا بشريا، فقد كنت أشكّ بأنّ هناك
طيفا خرج من رواية شكسبير التي كنت أقرأها.

وكانت مساء الخير التي صدرت عنه رقيقة عذبة لدرجة أني تمنّيت
لو كان المساء رجلا لأرتمي بأحضانه .

- عفوا آنستي، هل يمكنني الجلوس هنا برفقتك ؟ أعدك ألاّ أزعجك .

- أجل سيّدي

قلتها ونهضت هذه المرّة بسرعة تناثرت منها الحيرة والارتباك كما لو كنت
استيقظ من حلم يقظة طويل جدا . ولم استطع ان اخفي ارتباكي عنه
فالتمعت على ثغره أطياف ابتسامة ماكرة بالكاد ارتسمت على شفتيه،
لكنّني شعرت بها تخترق عظامي .

- اذا كانت رفقتي تزعجك فأنا سأغادر آنستي، لا أحب أن أتسبب لك بالاحراج .

- أبدا سيّدي لكنّي كنت شاردة بعض الشي، لا علَيْك سأكون على ما يرام .

وجلست قريبا منه على العشب الأخضر . لا أعي لم وافقت أن ينضم إليّ،
ولا لم طلب هو ذلك، لكن ما كنت واثقة منه هو أنّني كنت بحاجة إلى إنسان يقرأني
في تلك اللحظات، وبأنّي وجدته .
كان يجلس بقربي، وكان يمضغ تفاصيل وجهي بعينيه،
وكان يرتشف حيرة نظرتي بشفتيه الرقيقة،
شعرت بنظراته تحتويني وتعانق أبخرة القلق الصاعدة من روحي .

- هل يزعجك لو تجاذبنا أطراف الحديث آنستي ؟

ولم أتردد بالرد وكأنّي كنت أطهو إجابتي على نار هادئة منذ سنوات مضت .

- بالطبع لا سيّدي، بل يسعدني ذلك، أشعر بأنّي أعرفك منذ سنوات .

وتوقّعت أن تحرّك إجابتي تلك به ساكنا، لكنّ الهدوء كان يغرق نظراته
وتفاصيل وجهه اللطيف، فلم تنطق ملامحه بشيء، ولم تنبس خطوط بشرته بكلمة .

- حدّثيني عن نفسك آنستي، واعذريني إن كنت قد أخطأت باللقب
فهذا ما أشعر به، لا أعتقدك سيّدة، أليس كذلك ؟

وأرفق سؤاله ذاك بنظرة فاحصة كادت تثقب تفاصيل وجهي،
لدرجة أنّي تمنّيت وقتها لو أنّي تلاشيت، لألاّ تحرقني تلك النظرة .

- لا لم تخطيء سيّدي فأنا لا زلت آنسة. ماذا تحبّ أن تعرف عنّي؟
أم أحدّثك بما يروق لي ؟

ولم يجب عندها، ترك بريق عينيه المتّشح باللهفة يخبرني الرد .
فلم أجد نفسي إلاّ وأنا أغرق في بحر التفاصيل، اسمي،
سنّي، أسرتي، أصدقائي، جيراني، مدرستي، زملائي، دفاتري، أقلامي، أحلامي .
لا أعلم ما الذي ساقني لصبّ ذاتي في كأس إصغائه،
لكنّني كنت أشعر براحة عارمة وأنا أتحدّث .
وهو كان يجلس ويعانق كلماتي كما لو كانت بلسما شافيا يداوي روحه المتعبة .
توقفت عن الكلام، وتمعّنت تفاصيل وجهه، كأنّني أقول له جاء دورك . فشرع هو بالكلام .

- هل تود آنستي أن تسمعني ؟

وأجبته بلهجة حالمة، تتراقص على أهدابها خواصر الفرحة.

- بالطبع سيّدي .

- هل يمكنك أن تناديني باسمي الشخصي، أحمد ؟

- أ .......ح.........م.....ددددد

شعرت بالإسم يحتلّ شفتيّ دونما مقاومة، وتشبّعت أنفاسي به فخرج كلحن موسيقي رائع .

- نعم آنستي، وأحبّ أن أناديك أميرتي، فهل تعجبك التسمية ؟

ولم أجد نفسي إلاّ وأنا أتوه في الأحلام وأزرعه في حلمي أميرا .

-لن أمانع، حدّثني عن نفسك .

- أنا يا أميرتي ولدت في هذه اللحظة .

-أنا أيضا أشعر كما لو أنّني ولدت الآن.

- هل تسمح أميرتي بأن أمسك يدها ؟

وسارعت لأضع يدي في يده، دونما خجل أو تردّد،
كأنّي كنت أخشى أن يعدل عن طلبه لو تردّدت قليلا.

- ياااااااااااااااااااااااااه ، أميرتي، أشعر بأنّ ممالك عدّة قد توالت على هذه الراحة الغضّة،
إنّها عالم قائم بحدّ ذاته، ليتني انتسبت اليه مذ ولدت، لكم تفيض يدك بالدفء،
هل تسمحين لي بتحيّتها .

ولم ينتظر إجابتي بل اكتفى بالنظرة التائهة التي داعبت نظراته .
فلثم يدي بشفتيه برقة بالغة جعلتني أشعر بأنّ يدي ذابت بين شفتيه وتلاشت هناك .

- هل تسمح لي أميرتي أن أعيش وإيّاها الحلم؟،
وأن نتوه سويّة في جنبات الخيال؟ أريد أن نذهب سوية في رحلة جميلة فهل تقبلين ؟

وكنت عندها أحيا معه الحلم فعلا، كنت أعيشه كحلم جميل

فلم أستغرب الفكرة، ولم أتردد بالقبول .

- أجل فلنحلم، إلى أين ستأخذني في الحلم ؟

- نحن الآن على شاطيء البحر يا أميرتي، وبانتظارنا قارب سنركبه،
وسنقوم بجولة بحرية هادئة يرافقنا بها الليل والموج فقط، وسأحملك على ذراعيّ
الى القارب لألاّ تبتلّ أطراف ثوبك البهيّ بالماء.
وعشنا أجواء الرحلة بالخيال فانطلقنا ننسج الأحلام الجميلة دون توقّف .
كنّا نجلس في القارب والأمواج تداعب جنبات القارب من كلّ صوب،
وكانت أصوات تلاطمها توحي لنا بالمزيد والمزيد من الأحلام،
وكان الليل يهمس لنا بالكثير من الأمنيات، وكان هو يتغزّل بعينيّ وشفتيّ
وملامح وجهي، وكنت أنا أجلس في طرف القارب وأغنّي أغنية فيروز

" فايق يا هوا " وهو يستمع إليّ بلهفة وشوق .

ثمّ وصلنا إلى الشاطيء حيث كانت جزيرة نائية بني على شاطئها،
كوخ من القصب جلسنا بقربه وأوقد هو النّار،
فأعددت بدوري القهوة لنا، وجلسنا قرب النّار نتجاذب أطراف الحديث بيننا،
وطلب منّي أن أشار كه الرّقص فرقصنا رقصة جميلة هادئة،
فأوسدت رأسي كتفه وتهنا بالخيال، وبالرقص حتى شعرنا بالتعب .

واستيقظت من الحلم لأجد نفسي أوسد رأسي كتفه، ولأجدنا لا زلنا نجلس على العشب في تلك الحديقة الهادئة تحتضننا الأشجار، والأضواء الخافتة المنبعثة من المصابيح المتناثرة هنا وهناك . نظرت الى ساعتي فانتزعتني عقاربها المشيرة الى الساعة الثانية عشرة ليلا من الجوّ الحالم، ونهضت بسرعة ألملم أنفاسي وكتابي لأهمّ بالرحيل .
ونهض هو بدوره من مكانه عارضا عليّ أن يوصلني بسيارته الى البيت، لكنّني رفضت ذلك معلنة رغبتي بالذهاب بمفردي .
أوليته ظهري لكنّني عندها غزتني رغبة عارمة بعناقه، فركضت إليه وعانقته، وطبع هو بدوره قبلة أذابت شفتيّ بين شفتيه، وانتزعت نفسي انتزاعا من بين ذراعيه، وجريت راكضة.

مخلّفة ورائي حلما جميلا يستلقي على تلك الأعشاب الغضّة، يداعب المكان تفاصيله، وتحيطه الأشجار العالية لتحجبه عن العيون العاذلة، ورجل هاديء بنظرات لامعة ينطق بريقها بسعادة عارمة، ولا يزال طعم الحلم عالقا على شفتيه كتلك القبلة الولهى التي ختمنا بها اللقاء .

وتحركت في جلستي على ذلك الكرسي الأبيض، فسقطت قدميّ عن حافة الشرفة، واستيقظت لألمح بعض عيون تلتمع في عتمة الليل، تلتهمني بفضولها، فنهضت من مكاني ذاك داخلة الى الغرفة، وسمعت عندها موسيقى تأتي من الشرفة المجاورة، وصدى صوت السيّدة فيروز تغنّي:



فايق يا هوا

لم كنّا سوا

والدمع سهّرني

وصفولي دوا

تاري الدوا حبّك

وفتّش عالدوا


فاتن دراوشة
الاعضاء

عدد المساهمات : 22
تاريخ التسجيل : 27/01/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى